“شتّي يا بيروت”، عمل يشقّ الأنفاس، يخرج من منصّة التمثيل إلى منصّة الروح، يقلب الصورة إلى حياة من لحم ودم؛ نتوه مع الشخصيات في دروبها الوعرة، ونبرد لبردها ويغمرنا الدمع لمأساتها. كل لحظة في هذا العمل لاهثة مكثفة، تفتح الوجدان على خيالات ومشاعر لا تنتهي. صهيل الأداء سحاب يتطاير بين الوهاد والقمم. دراما من 30 حلقة، كتبها بلال شحادات من عمق القلب، وأخرجها إيلي السمعان بنبض مرتفع، فكرة وإنتاج صادق أنور الصبّاح، وتُعرض على منصّة “شاهد”.
لا يوجد قصّة واحدة. هي مجموعة قصص مرصوصة مع بعضها، كنوتة موسيقية تؤلف المعزوفة كاملة لتشقّ الضمير وتكشف بنبراتها خبل هذه الحياة وأقدارها المقيتة.
لا مشهد مكرّر ولا لقطة إضافية، عمل من أريج الفن قليله كثير، حواراته مصقولة كالجواهر وأحداثه متراصة كشهيق الألم؛ شخصياته كبرق فاضح يغشي العيون بالنور والذهول. عمل درامي بمقياس كيميائي، كل مكوّن فيه مدروس بالغرام، لا فضفضة ولا زوائد ولا تقشّف، بل فائض بالأداء المتقن والكاميرا التي تسحب الصورة نحو الأعماق.
“شتّي يا بيروت” هي قصّة “قابيل وهابيل”، صراع الخير والشر، يتكرران في كل زمان ومكان. الأخ يقدّم أخوه كبشاً للانتقام من أجل الفوز بمبتغاه. هي حكاية الظلم لزوج يضرب زوجته الضعيفة التي تشقى ليل نهار، ثم يجرّدها من تعبها لأجل ملذّاته. هي الوجع عندما تبيع الفتاة نفسها من أجل أن تعالج والدها المريض. هي الأوطان المكلومة التي تبصق أبناءها في أصقاع الأرض ويلتهمهم موج البحر وطاغوت الأرض. هي الثري المسرف على حاجياته وشبقه. كل هذه التوليفة تتقاطع معاً وتشدّ القصة كوتر في يد عواد محترف.
عابد فهد البطل الذي يعود إلينا كأنّه ولد للتّو، يسرف في جمال حضوره وأدائه على مقلتَي الدمع، كأن به خلق هنا في هذا السجن وهذه البراري وتلك التخشيبة، ملامحه كوشم ونظراته المجبولة بالأبوة. لا يمثّل أنه ينفجر كبركان يخرج حممه وأعماقه لتعمّ الشاشة. هو الأخ “هابيل” المغبون، وابن العم المظلوم هو الأب المكسور والزوج المحزون. هو موقف الخير وإرادة السلام، مقابل “قابيل” موقف الإرهاب والفساد والترويع. عابد فهد يغتسل بميرون الفن ليسطع كمبدع لا مبدع له.
الطفل أيوب هو ورق القصة وحبرها وأثرها. طفل من ذوي الاحتياجات الخاصة، يحضر كبطل ويعطي المضمون منحى البراءة والانسانية؛ يفضح الوجه الأخر للإنسان وقذارته ومدى إعاقته الحقيقية، تلك الإعاقة التي تنبع من الداخل الملوّث بالهمجية والعنف والتصفية والقتل. لأوّل مرّة نشهد مثل هذه المشاركة الجريئة والصعبة والمتعبة حتماً لطفل مثل أيوب. مشاركة أقل ما يُقال فيها إنها تحدٍ ومغامرة فنية لخدمة الإنسان.
إلسا زغيب ليست باكتشاف أنها الشخصية حيث ما وجدت أبرقت. وجهها المصفح بالنقاء ونبرتها المخزونة في الأعماق تحتاج إلى من يطلقها. لم تأخذ حقها في تتويجها بطلة دائمة، لكنها كذلك. إلسا لم تخطُ في عمل إلا وكانت آسرة، وهي هنا شخصية من فولاذ بطعم الماء نرتوي بها، تشدّ أزرنا بقوّتها ورقّتها وضعفها، وتشعل فينا كل غضب، وتلهمنا الصبر كيف ما برمت.
زينة مكي شخصية كيفما التفتت تأتي متألقة. حركتها ذات نبرات عالية، حمرتها تشي بالضجيج، صمتها متقن بكل لغات التعبير. دورها هو الظلم بأمّه وأبوه. هو الوجع الساكن في البيوت العفيفة التي تسلك درب النجاسة من أجل البقاء. هو بيع الروح البيضاء في سوق اللحم من أجل الثبات.
لا مجانية في هذه الدراما الإنسانية الحقيقية التي تعبّر عن كثر منا في حروبنا مع الآخر وفي مشقات الاستمرار وفي الظلم الذي لا يخفت أبطاله، بل دومًا متواجدين بهيئات وأدوات جديدة. العمل ما زال في حلقاته الأولى، يسلك متاهات عدّة وخذلان لا نعرف على أي محطة سيقودنا العمل، وهل من انتصارات مبشرة بالخير ولو فنياً أو أن الكاتب سيأخذنا أكثر نحو شطآن الواقع لنشهد الخسارات الجلل؟
كمال طنوس